فصل: تفسير الآية رقم (157):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (155):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
وعندما نقرأ كلمة {استزلهم} نعرف أن (الهمزة والسين والتاء) للطلب، تطلب ما بعدها، مثل: استفهم أي طلب الفهم، استعلم يعني طلب العلم، استقوى يعني طلب القوة، و(اسْتَزَلَّ) يعني طلب الزّلل، ومعنى (الزَّلل) هو العثرة والهفوة، أي أن الإنسان يقع في الغلط، إذن فالشيطان طلب أن يزلوا، {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}، كأن الشيطان لا يجترئ على أن يستزل أحداً ممن آمن إلا إذا صادف فيه تحللاً من ناحية، لكن الذي ليس عنده تحلل لا يقوى عليه الشيطان، ساعة يأتي الإنسان ويعطي لنفسه شهوة من الشهوات فالشيطان يرقمه ويضع عليه علامة ويقول: هذا ضعيف، هذا نقدر أن نستزِلّه. لكن الذي يراه لا يطاوع نفسه في شيء من التحلل لا يقترب ناحيته أبداً.
ولذلك فالنفس هي مطية الشيطان إلى الذنوب، وفي الحديث الشريف: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) وعندما يرى الشيطان واحداً تغلبْه نفسه في حاجة فالشيطان يقول: هذا فيه أمل! وهو الذي يجري منه مجرى الدم كما سبق في الحديث، أما الملتزم الذي ساعة تُحدثه نفسه بشيء ويأبى فالشيطان يخاف منه، إذن فالشيطان لا يستزل إلا الضعيف، ولذلك فالذي يكون ربه على ذِكْر منه دائماً لا يجترئ عليه الشيطان أبداً.
إن الله سبحانه قد سمى الشيطان (الوسواسَ الخناس)، إنه يوسوس للناس، لكنه خنَّاس فإذا ذُكر اللهُ يخنِس، أي يتأخر ويختفي ولكنّه ينفرد بك حين يراك مٌنعزلاً عن ربك، لكن حين تكون مع ربك فهو لا يقدر عليك بل يتوارى ويمتنع عن الوسوسة إذا استعذت عليه بالله.
إذن فقوله: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} يعني طلب منهم أن يزلوا نتيجة لأنه عرف أنهم فعلوا أشياء أَبْدَوا وأظهروا فيها ضعفهم، {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وكلمة {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}.. كأن قول الله {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} أنه لم يأخذهم بكل ما كسبوا؛ لأن ربنا يعفو عن كثير. {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
{عَفَا الله عَنْهُمْ} لماذا؟ عفا عنهم تكريما لمبدأ الإسلام الذي دخلوا فيه بإخلاص، ولكن نفوسهم ضعُفت في شيء، فيُعطيهم عقوبة في هذه ولكنه يعفو عنهم فهذا هو حق الإسلام، {إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ...}.

.تفسير الآية رقم (156):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}
والضرب في الأرض هو السعي واستنباط فضل الله في الأرض وفي سبيله لإعلاء كلمته، فالذين كفروا يرتبون الموت والقتل والعمليات التي يفارق الإنسان فيها الحياة على ماذا؟ على أنه ضرب في الأرض أو خرج ليقاتل في سبيل الله، وقالوا: لو لم يخرجوا ما حصل لهم هذا! سنرد عليهم، ونقول لهم: كأنكم لم تروا أبداً ميتاً في فراشه. كأنكم لم تروا مقتولا يسقط عليه جدار، أو يصول عليه جمل، أو تصيبه طلقة طائشة، هل كل من يموت أو يقتل يكون ضارباً في الأرض لشيء أو خارجا للجهاد في سبيل الله؟!
إذن فهذا حُمق في استقراء الواقع، وجاء الحق بذلك ليعطينا صورة من حكمهم على الأشياء، إنه حكم غير مبني على قواعد استقرائية حقيقية. فإذا عرفنا أنهم كفروا نقول: هذه طبيعتهم، لأننا نجد أن حكمهم ليس صحيحا في الأشياء الواضحة، وما دام حكمهم ليس صحيحاً أو حقيقيا في الجزئيات التي تحدث- فإذا عرفتم أنهم كفروا فهذا كلام منطقي بالنسبة لهم- فشأنهم أنهم لا يتثبتون في أحكامهم فلا عجب- إذن- أن كانوا كافرين.
{أَوْ كَانُواْ غُزًّى} وغُزى: جمع غازٍ، مثل: صُوّم وقُوَّم؛ يعني جمع: صائم وقائم. {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}. إذن فالله سبحانه وتعالى يصور لهم ما يقولونه ليعذبهم به، كيف؟ لأنهم عندما يقولون: لو كانوا عندنا لكنا منعناهم أن يخرجوا أو يُقتلوا، إذن فنحن السبب.
وهكذا نجد أنهم كلما ذكروا قتلاهم أو موتاهم يعرفون أنهم أخطأوا، وهذه حسرة في قلوبهم، ولو أنهم ردوها إلى الحق الأعلى لكان في ذلك راحة لهم ولَما كانوا قد أدخلوا أنفسهم في متاهة، ويحدُث منهم هذا حتى نعرف غباءهم أيضاً؛ فهم أغبياء في كل حركاتهم وفي استقراء الأحداث الجزئية، وأغبياء في استخراج القضية الإيمانية الكلية، أغبياء في أنهم حشروا أنفسهم وأدخلوها في مسألة ليست من شأنهم، فأراد ربنا سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك حسرة عليهم.
{لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} إن القضية الإيمانية هي {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو الذي يَهَب الحياة وهو الذي يهب الموت، فلا الضرب في الأرض ولا الخروج في سبيل الله هو السبب في الموت، ولذلك يقول خالد بن الوليد- رضي الله عنه-: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةُ سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر- أي حتف أنفه- فلا نامت أعين الجبناء.
والشاعر يقول:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ** وأن أشهد اللذات هل أنت مُخْلِدِي؟

أي يا من تمنعني أن أحضر الحرب هل تضمن لي الخلود ودوام البقاء إذا أحجمت عن القتال. ويكمل الشاعر قوله:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ** فدعني أبادرها بما ملكت يدي

ويختم الحق الآية بقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فكأنهم قد بلغوا من الغباء أنهم لم يستتروا حتى في المعصية، ولكنهم جعلوها حركة تٌُرى، وهذا القول هنا أقوى من (عليم)؛ لأن (عليم) تؤدي إلى أن نفهم أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم لا، هي صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر. فجاء قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}

.تفسير الآية رقم (157):

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)}
والذي يحرص على ألا يخوض المعركة مخافة أن يُقتل، فما الذي يرجح عنده هذا العمل؟ إنه يبتغي الخير بالحياة. وما دام يبتغي الخير بالحياة، إذن فحركته في الحياة في وهمه ستأتيه بخير، فهو يخشى أن يموت ويترك ذلك الخير، إنه لم يمتلك بصيرة إيمانية، ونقول له: الخير في حياتك على قدر حركتك: قوة وعلما وحكمة، أما تمتعك حين تلتقي بالله شهيداً فعلى قدر ما عند الله من فضل ورحمة وهي عطاءات بلا حدود، إذن فأنت ضيعت على نفسك الفرق بين قُدرتك وحِكمتك وعِلمك وحَركتك في الكسب وبين ما يُنسب إلى الله في كل ذلك، ولذلك يقول الحق: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}
وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}

.تفسير الآية رقم (158):

{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
ولنا أن نلحظ أن قول الحق في الآية الأولى جاء بتقديم القتل على الموت قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ} وجاء في هذه الآية بتقديم الموت على القتل قال- جل شأنه-: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} فقدم القتل على الموت في الآية الأولى لأنها جاءت في المقاتلين، والغالب في شأنهم أن من يلقى الله منهم ويفضي إلى ربه يكون بسبب القتل أكثر مما يكون بسبب الموت حتف أنفه، أما هذه الآية فقد جاءت لبيان أن مصير جميع العباد-ومرجعهم يوم القيامة يكون إلى الله- تعالى- وأن أكثرهم تزهق نفسه وتخرج روحه من بدنه بسبب الموت، فلذا قدم الموت هنا على القتل. إذن فكل كلمة وجملة جاءت مناسبة لموقعها. إنه قول الحكيم الخبير.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر...}.

.تفسير الآية رقم (159):

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}
إن الآية كما نرى تبدأ بكلام إخباري هو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ}. فكأنه سبحانه يريد أن يقول: إن طبيعتك يا محمد طبيعة تتناسب لما يطلب منك في هذه المسألة، هم خالفوك وهم لم يستجيبوا لك حينما قلت: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله إني رسول الله، وهذا شيء يٌحْفِظ ويُغضِب. ولكنه لا يُحفِظ طبيعتك ولا يُغضب سجيتك لأنك مفطور مع أُمّتك على الرحمة. فكأنه يريد أن يُحنن رسول الله على أمته التي أصابته بالغم؛ فقال له: إياك أن تجازيها على هذا؛ لأن طبيعتك أنك رحيم، وطبيعتك أنك لست فظاً، طبيعتك أنك لست غليظ القلب، فلا تخرج عن طبيعتك في هذه المسألة، مثلما تأتي لواحد مثلا وتقول له: أنت طبيعة أخلاقك حسنة، يعني اجعلها حسنة في هذه.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} أي بأي رحمة أودعت فيك. ساعة تقول: بأي رحمة فأنت تبهم الأمر، وعندما تُبهم الشيء فكأنه شيء عظيم؛ لأن الشيء يُبهم إما لأنه صغير جدا، وإما لأنه كبير جدا، فالشيء إذا كان كبيرا يكون فوق المستوى الإدراكي، وإذا كان صغيرا جدا يكون دون مستوى الإدراك. ولذلك فالأشياء الضخمة جدا نرى منها جانبا ولا نرى الجانب الآخر، والشيء الدقيق جدا لا نراه، ولذلك يقولون: هذا الشيء نكرة، وذلك يدل مرة على التعظيم ويدل مرة على التحقير، ومرة يدل على التكثير، ومرة يدل على التقليل. فإن نظرت إلى أن الإدراك لا يستوعبه لضخامته إذن فهو كثير، وإن رأيت أن الإدراك لا يستوعبه لِلطفه ودِقَّته، وأنه ليس في متناول البصر يكون قليلا أو دقيقا.
إذن فقول الحق: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} أصلها هو: برحمة من الله طُبعت عليها لِنْتَ لهم، و(ما) لماذا جاءت هنا؟ إنك إما أن تأخذها إبهامية.. يعني بأي رحمة فوق مستوى الإدراك، رحمة عظيمة. أو تقول: (فبما رحمة) أي أن (ما) تكون اسما موصولا. وكأن الحق يقول له: فبالرحمة المُودعة من خالقك فيك والتي تُناسب مٌهمتك في الأمة لِنْت لهم، وما دامت تلك طبيعتك فَلِنْ لهم في هذا الأمر واعفُ عنهم واستغفر لهم.
وهذه الآية جاءت عقب أحداث حدثت في أُحد: الحدث الأول: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ألا يخرج إلى قتال قريش خارج المدينة بل يظل في المدينة، فأشار عليه المحبون للشهادة والمحبون للقتال والمحبون للتعويض عما فاتهم من شرف القتال في (بدر) أن يخرج إليهم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأيهم، ولبس لأمته، فلما أحسوا أنهم أشاروا على رسول الله بما يخالف ما كان قد بدر منه، تراجعوا وقالوا: يا رسول الله إن رأيت ألا نخرج، فقال: «ما ينبغي لِنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» فما دام قد استعد للحرب انتهى الأمر، هذه أول مسألة وهي مسألة المشورة.
وبعد ذلك تخلف ابن أُبيّ بثُلثُ الجيش وهذه مسألة ثانية، أما المسألة الثالثة فهي مُخالفة الرُماة أمره صلى الله عليه وسلم وتَرْكهم مواقعهم على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم قد حذرهم من ذلك وقال لعبد الله بن جبير الذي أمَّره على الرماة: (أنضح عنا الخيل بالنَّبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتَين من قَبْلك)، ولكنهم خالفوا عن أمر رسول الله. والمسألة الرابعة هي: فِرارهم حينما قيل: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسألة الخامسة: أنه حين كان يدعوهم؛ فروا لا يلوون على شيء.
كل تلك أحداث كادت تترك في نفسه صلى الله عليه وسلم آثاراً، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: أنا طبعتك على رحمة تتسع لكل هذه الهفوات، والرحمة مني، وما دامت الرحمة موهوبة مني فلابد أني جعلت فيك طاقة تتحمل كل مخالفة من أمتك ومن أتباعك. ولا تظن أنك قد أُرسلت إلى ملائكة، إنما أُرسلت إلى بشر خطاءون، البشر من الأغيار، فلهذا اجعل المسألة درساً، وأنا فطرتك على الرحمة، وأنت بذاتك طلبت مني كثيراً من الخير لأمتك، ومن رحمته أن جبريل نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال: يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا».
فأنا أطلب منك الرحمة التي أودعتُها في قلبك فاستعملتها في كل مجال، وبهذه الرحمة لنت لهم، وبهذه الرحمة التفُّوا حولك، التفوا حولك لأدبك الجم، ولتواضعك الوافر، لجمال خلقك، لبسمتك الحانية، لنظرتك المواسية، لتقديرك لظرف كل واحد حتى إنك إذا وضع أي واحد منهم يده في يدك لم تسحب يدك أنت حتى يسحبها هو، خُلق عالٍ، كل ذلك أنا أجعله حيثية لتتنازل عن كل تلك الهفوات ولْيَسَعها خُلقك وليسعها حلمك، لأنك في دور التربية والتأديب. والتربية والتأديب لا تقتضي أن تغضب لأي بادرة تبدر منهم، وإلا ما كنت مُربيا ولا مُؤدبا.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لماذا؟ لأنك تُخرجهم عما ألفوا من أمور الجاهلية.
والذي يخرج واحدا عما ألِف لا يصح أن يَجْمَع عليه إخراجه عما اعتاد بالأسلوب الخشن الفظ؛ لأنه في حاجة إلى التودد وإلى الرحمة، لا تجمع عليه بين أمرين تقبيح فعله، وإخراجه عما ألف واعتاد، ولذلك يقولون للذي ينصح إنسانا، النصح ثقيل؛ لأن النصح معناه تجريم الفعل في المنصوح، فعندما تقول لواحد: لا تفعل هذا، ما معناها؟ معناها أن هذا الفعل سيء، فما دمت تُجِرّم فعله فلا تجمع عليه أمرين، إنك قبحت فِعْله وأخرجته مما أَلِف، وبعد ذلك تنصحه بما يكره لا، إنه في حاجة إلى ملاطفة وملاينة لتستل منه الخصال القبيحة، ونحن نستعمل ذلك في ذوات أنفسنا حين نجد مرضا يحتاج إلى علاج مر، فنغلف العلاج المر في غلاف من السكر بحيث يمر من منطقة الذوق بلا ألم أو نغص، حتى ينزل في المنطقة التي لا تحس بهذه المرارة؛ لأن الإحساس كله في الفم.
فإذا كنتم تفعلون ذلك في الأمور المادية، فلابد إذن أن نطبق ذلك أيضا في الأمور المعنوية، ولأن النُصح ثقيل فلا تجعله جدلا ولا ترسله جبلا، وخِفة البيان تؤدى عنك بدون إثارة أو استثارة، وبلطف يحمل على التقبل.
بهذا تصل إلى ما تريد، ومثال ذلك حكاية الملك الذي رأى في منامه أن أسنانه كلها وقعت، فجاء للمعبر ليعبر، فقال له: أهلك جميعا يموتون، التعبير لم يُسر منه الملك، فذهب لواحد آخر فقال له: ستكون أطول أهل بيتك عمرا، إنه التعبير نفسه، فما دام أطول أهل بيته عمرا، إذن فسيموتون قبله، هي هي، ولذلك قالوا: الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} إذن فبالرحمة لِنت لهم وبلين القول تبعوك وألفوك وأحبوك. و(الفظُّ) هو: ماء الكرش، والإبل عندما تجد ماءً فهي تشرب ما يكفيها مدة طويلة، ثم بعد ذلك عندما لا تجد ماء فهي تجتر من الماء المخزون في كرشها وتشرب منه، في موقعة من المواقع لم يجدوا ماء فذبحوا الإبل وأخذوا الماء من كرشها، الماء من كرش الإبل يكون غير مستساغ الطعم، هذا معنى (الفَظّ)، ونظرا لأن هذا يورث غضاضة فسموا: (خشونة القول) فظاظة، والغلظ في القلب هو ما ينشأ عنه الخشونة في الألفاظ.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. إنها رحمة طُبِعت عليها يا رسول الله من الحق الذي أرسلك. وبالرحمة لِنت لهم وظهر أثر ذلك في إقبالهم عليك وحُبهم لك؛ لأنك لو كنت على نقيض ذلك لما وجدت أحداً حولك. إذن فالسوابق تثبت أن هذه هي طباعك، وخلقك، هو الرحمة واللين.
وبعد ذلك اعفُ عنهم، وقلنا: إن (العفو) هو: مَحْو الذنب محوا تاماً وهو يختلف عن كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ يعني أن تكون المسألة موجودة في نفسك أيضا إلا أنك لا تعاقب عليها؛ لأنك كففت جوارحك وصنت لسانك، أما المسألة فما زالت في نفسك، لكن العفو هو أن تمحو المسألة كلها نهائيا، وتأكيدا لذلك العفو فأنت قد تقول: أنا من ناحيتي عفوت.
لا. المسألة لا تتعلق بك وحدك، لأنك لابد أن تستغفر الله لهم أيضا، فمن الممكن أن يعفو صاحب الذنب، ولكن ربي ورب صاحب الذنب لا يعفو، فيوضح الحق: أنت عفوت فهذا من عندك؛ لكنه يطلب منك أن تستغفر لأجلهم. كي لا يعذبهم الله عما بدر منهم نحوك.
{فاعف عَنْهُمْ} هذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.. {واستغفر لَهُمْ} بسبب ما فعلوه، وترتب عليه ما ترتب من هزيمتكم في (أحُد)، وشجك وجرحك، ولا تقل: استشرتهم وطاوعتهم في المشورة، وبعد ذلك حدث ما حدث، فتكره أن تشاورهم، لا تقفل هذا الباب برغم ما حدث نتيجة تلك المشورة وأنَّها لم تكن في صالح المعركة، فالعبرة في هذه المشقة هي أن تكون (أحدُ) معركة التأديب، ومعركة التهذيب، ومعركة التمحيص، إذن فلا ترتب عليها أن تكره المشورة، بل عليك أن تشاورهم دائما، فما دام العفو قد رضيت به نفسك، وما دمت تستغفر لهم ربك، واستغفارك ربك قد تستغفره بعيدا عنهم، وعندما تشاورهم في أي أمر من بعد ذلك فكأن المسألة الأولى انتهت، وما دامت المسألة الأولى قد انتهت، فقد استأنفنا صفحة جديدة، وأخذنا الدرس والعظة التي ستنفعنا في أشياء كثيرة بعد ذلك.
ولذلك تجد بعد هذه المعركة أن الأمور سارت سيرها المنتصر دائما؛ لأن التجربة والتعليم والتدريب قد أثر وأثمر، لدرجة أن سيدنا أبا بكر- رضي الله عنه- عندما جاءت حروب الردة، ماذا صنع؟ شاور أصحابه، فقال له بعضهم: لا تفعل. فهل سمع مشورتهم؟ لا. لم يسمع مشورتهم، إنما شاورهم. فلإنقاد المشورة حُكم، ولرد المشورة حكْم، المهم أن تحدث المشورة؛ ونعمل بأفضل الآراء فالمشورة: تلقيح الرأي بآراء متعددة، ولذلك يقول الشاعر:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ** يوما وإن كنت من أهل المشورات

لقد اهتدى الشاعر إلى كيفية تقريب المعنى لنا، فعلى الرغم من أن الإنسان قد يكون من أهل المشورة والناس تأخذ برأيه، فعليه أن يسأل الناس الرأي والمشورة، لماذا؟ ها هو ذا الشاعر يكمل النصيحة:
فالعين تنظر منها مادنا ونأى ** ولا ترى نفسها إلا بمرآة

إن العين ترى الشيء القريب والشيء البعيد، لكن هذه العين نفسها تعجز عن رؤية نفسها إلا بمرآة، وكذلك شأن المسألة الخاصة بغيرك والتي تعرض عليك، إن عقلك ينظر فيها باستواء ودون انفعال؛ لأنه لا هوى لك، والحق هو الذي يجذبك. لكن مسائلك الخاصة قد يدخل فيها هواك ويُحليها لك ويُحسنها.
إذن فالمشورة في أحُد كانت نتيجتها كما علمتم، وكأن الله يقول لرسوله: إياك أن تأخذ من سابقة المشورة أن المشورة لا تنفع، فتقاطعهم ولا تشاورهم؛ لأنك لن تظل حيا فيهم، وسيأتي وقت يحكمهم بشر مثلهم، وما دام يحكمهم بشر مثلهم فلا تحرمه أن يأخذ آراء غيره، وعندما يأخذ الآراء وتكون أمامه آراء متعددة فهو يستطيع أن يتوصل إلى الحكم الصحيح بحكم الولاية وبحكم أنه الإمام، ويستطيع أن يفاضل ويقول: هذه كذا وهذه كذا، إلا أن يُفوض غيره.
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} وقد عزم رسول الله أيضا على الحرب ولبس لأمته، أكان يلبس اللأمة- وهي عُدة الحرب- وبعد ذلك يقولون له: لا تخرج فيدعها؟ لا؛ فالمسألة لا تحتمل التردد. {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} وهذه فائدة الإيمان، وفائدة الإيمان: أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، معادلة جميلة! الجوارح تقول: نزرع، نحرث، نأتي بالبذر الجيد، نروي، نضع سماداً ونفترض أن الصقيع قد يأتي ونخشى على النبات منه فنأتي بقش ونحوه ونُغطيه، كل هذه عمل الجوارح. وبعد ذلك القلوب تتوكل.
فإياك أن تقول: المحصول آتٍ آتٍ لأنني أحسنت أسبابي، لا. لأن فوق الأسباب مُسَبِّبَها. فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل، هذه فائدة الإيمان لأنني مؤمن بإله له طلاقة القدرة، يخلق بأسباب ويخلق بغير أسباب. الأسباب لك يا بشر، أما الذي فوق الأسباب فهو الله، فأنت حين تعمل أخذت بالأسباب، وحين تتوكل ضمنت المسبب وهو الله- سبحانه-.
إذن فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل. إياك أن تظن أن التوكل يعني أن تترك الجوارح بلا عمل، لا، فهذا هو التواكل أو الكسل، إنه التوكل الكاذب، والدليل على كذب من يقول ذلك أنه يحب أن يتوكل فيما فيه مشقة، والسهل لا يتوكل فيه، ونقول للرجل الذي يدعي أنه يتوكل ولا يعمل: أنت لست متوكلا، ولو كنت صادقا في التوكل إياك أن تمد يدك إلى لقمة وتضعها في فمك. كن متوكلا كما تدعي، ودع التوكل يضع لك اللقمة في فمك واترك التوكل ليمضغها لك!
وطبعا لن يفعل ذلك، ولهذا نقول له أيضا: إن ادعاءك التوكل هو بلادة حس إيماني وليس توكلا.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} و{عَزَمْتَ} تقتضي عزيمة، والتوكل يقتضي إظهار عجز، فمعنى أني أتوكل على الله أنني استنفدت أسبابي، ولذلك أرجع إلى من عنده قدرة وليس عنده عجز، وهذا هو التوكل المطلق.
وفي حياتنا اليومية نسمع من يقول: أنا وكلت فلانا، أي أنني لا أقدر على هذا الأمر فوكلت فلانا. ومعنى توكيله لفلان انه قد أظهر عجزه عن هذا الأمر. ولهذا ذهب إلى غير عاجز. كذلك التوكل الإيماني، فالتوكل معناه: تسليمك زمام أمورك إلى الحق ثقة بحسن تدبيره، ومن تدبيره أن أعطاك الأسباب فلا ترد يد الله الممدودة بالأسباب ثم تقول له اعمل لي يارب؛ لأننا قلنا في سورة الفاتحة: إن الإنسان يدعو قائلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
ومعنى (نستعين) أي نطلب منك المعونة التي نتقن بها العمل. وبعد ذلك يقول الحق: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ...}.